في عالم الإدارة الحديث، غالبًا ما يتم التركيز على المهارات “الناعمة” مثل التواصل والقيادة التحفيزية والتفكير الاستراتيجي. وفي حين أن هذه المهارات لا غنى عنها لأي قائد ناجح، إلا أن هناك مهارة جوهرية وحاسمة غالبًا ما يتم التغاضي عنها أو التقليل من شأنها، وهي: الخبرة التقنية العميقة في صميم العمل.

إن الفكرة القائلة بأن المدير الناجح يمكنه قيادة أي فريق بغض النظر عن مجاله التقني قد تبدو جذابة، لكن الواقع العملي يثبت عكس ذلك. فالقائد الذي يفتقر إلى فهم حقيقي لتفاصيل العمل الذي يشرف عليه، يواجه تحديات جمة قد تقوض فعاليته وقدرته على كسب احترام فريقه.

أهمية الخبرة التقنية للقائد: أبعد من مجرد معرفة

إن امتلاك القائد، خاصة في أعمال الصف الأول، لخلفية تقنية صلبة لا يعني بالضرورة أن يكون هو المبرمج الأكثر براعة أو المهندس الأكثر خبرة في الفريق. بل تعني امتلاك فهم عميق وشامل لـ:

  • آليات العمل وكيفيته: القدرة على فهم المهام اليومية التي يقوم بها أعضاء الفريق، والأدوات التي يستخدمونها، والتحديات التي يواجهونها.
  • تقدير مدة إنجاز المهام: عندما يفهم القائد الجهد والوقت الفعليين لإنجاز مهمة ما، فإنه يضع توقعات واقعية، ويخطط بشكل أفضل، ويدافع عن فريقه ضد الضغوط غير المنطقية.
  • اتخاذ قرارات مستنيرة: القرارات التقنية التي يتخذها القائد، سواء كانت تتعلق باختيار تقنية جديدة أو حل مشكلة معقدة، تكون أكثر دقة وفعالية عندما تستند إلى معرفة حقيقية وليس مجرد تخمين.
  • كسب المصداقية والاحترام: الفريق التقني يحترم القائد الذي “يتحدث لغتهم” ويفهم عالمهم. هذه المصداقية تسهل التواصل، وتعزز الثقة، وتجعل الفريق أكثر تقبلاً للتوجيهات والنقد البناء.

إن القائد الذي يسأل “لماذا يستغرق هذا الأمر كل هذا الوقت؟” بنبرة اتهام، يختلف تمامًا عن القائد الذي يسأل نفس السؤال من منطلق الفهم والرغبة في إزالة العوائق. الأول يخلق شعورًا بالضغط وعدم الثقة، بينما الثاني يبني جسرًا من التعاون.

مهارات إدارية أخرى مهملة ولكنها تصنع الفارق

إلى جانب الخبرة التقنية، هناك مجموعة من المهارات الإدارية الأخرى التي غالبًا ما تقع في “المنطقة العمياء” للعديد من المدراء، ولكنها تلعب دورًا محوريًا في تحقيق النجاح المستدام:

  1.  المهارات المفاهيمية (Conceptual Skills): وهي القدرة على رؤية “الصورة الكبيرة” وفهم كيفية ترابط جميع أجزاء المنظمة معًا. القادة الذين يتمتعون بمهارات مفاهيمية عالية لا يرون فريقهم كجزيرة معزولة، بل كجزء من نظام بيئي متكامل. هذا الفهم يمكنهم من مواءمة أهداف فريقهم مع الأهداف الاستراتيجية للشركة، وتوقع تأثير قراراتهم على الأقسام الأخرى.

لماذا تُهمل؟ غالبًا ما تتم مكافأة المدراء على تحقيق نتائج قصيرة المدى ضمن نطاق قسمهم، مما يقلل من حافزهم للنظر إلى ما هو أبعد من ذلك.

  1. الذكاء العاطفي الاجتماعي (Social Intelligence): يتجاوز هذا المفهوم مجرد التعاطف الفردي. إنه يتعلق بفهم ديناميكيات الفريق، وقراءة الأجواء العامة، وإدراك الشبكات الاجتماعية غير الرسمية داخل مكان العمل. القائد الذي يتمتع بهذه المهارة يستطيع نزع فتيل النزاعات قبل تفاقمها، وتحفيز الفرق بشكل جماعي، وبناء ثقافة عمل إيجابية ومنتجة.

لماذا تُهمل؟ يُنظر إليها أحيانًا على أنها مهارة “ناعمة” يصعب قياسها، ويتم التركيز بدلاً من ذلك على مقاييس الأداء الكمية.

  1. إدارة التغيير بفعالية: في بيئة الأعمال سريعة التطور، أصبح التغيير هو الثابت الوحيد. ومع ذلك، فإن العديد من القادة يفشلون في إدارة الجانب الإنساني للتغيير. المهارة هنا لا تكمن فقط في التخطيط للمبادرات الجديدة، بل في إيصال الرؤية بوضوح، والاستماع إلى مخاوف الموظفين، وإشراكهم في العملية، وتوفير الدعم اللازم للتكيف.

لماذا تُهمل؟ هناك افتراض خاطئ بأن إعلان التغيير كافٍ لحدوثه، مع إغفال مقاومة التغيير الطبيعية لدى البشر.

  1. اتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات (Data-Driven Decision Making): في عصر البيانات الضخمة، لم يعد الاعتماد على الحدس والخبرة الشخصية وحدها كافيًا. القائد الفعال هو الذي يطلب البيانات، ويعرف كيفية تحليلها، ويستخدمها كأساس لقراراته. هذا النهج يقلل من التحيزات الشخصية ويزيد من احتمالية صحة القرارات.

لماذا تُهمل؟ قد يفتقر بعض القادة إلى المهارات التحليلية أو يجدون صعوبة في الوصول إلى البيانات الصحيحة وتفسيرها، فيلجأون إلى الطرق التقليدية الأسهل.

الخلاصة:

إن القيادة الناجحة هي مزيج متكامل من المهارات. وبينما تظل القدرة على الإلهام والتواصل حيوية، يجب ألا نغفل عن المهارات التي تبني أساسًا متينًا للقيادة. إن القائد الذي يجمع بين الخبرة التقنية العميقة في مجاله، والقدرة على رؤية الصورة الكاملة، وفهم ديناميكيات فريقه، وإدارة التغيير ببراعة، واستخدام البيانات كبوصلة، هو القائد الذي لا يحقق أهدافه فحسب، بل يبني فرقًا قوية ومستدامة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. لقد حان الوقت لإعطاء هذه المهارات “المهملة” الاهتمام الذي تستحقه.