الرسالة واحدة.. فلماذا ينجح هو وتفشل أنت؟ سر "الكلمة" الخفي.
22 يونيو 2025
“الكلمة”، تلك الأداة التي لا نلقي لها بالاً في كثير من الأحيان، هي في حقيقتها أقوى أداة يمتلكها الإنسان. هي جسر يبني العلاقات أو لغم يدمرها، هي بلسم يداوي الجروح أو خنجر يدميها، وهي مفتاح يفتح القلوب أو قفل يغلقها إلى الأبد. في مقالنا الأسبوعي هذا اليوم،
سنتعمق في تأثير “الكلمة”، ونكشف السر وراء نجاح شخص في إيصال رسالته وإخفاق آخر، رغم أن كليهما قد ينطقان بنفس الكلمات.
قوة الكلمة: بناء وهدم
لا تقتصر قوة الكلمة على معناها الظاهر، بل تمتد لتلامس وتراً حساساً في أعماق النفس البشرية. فقد أثبتت الدراسات النفسية والاجتماعية أن للكلمات تأثيراً مباشراً على مشاعرنا، أفكارنا، وحتى على صحتنا الجسدية. الكلمة الطيبة، كما وصفها القرآن الكريم “كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ”، تغذي الروح وتمنح الأمل وتدفع إلى الإيجابية. كلمة تشجيع في وقت انكسار قد تعيد بناء ثقة إنسان بنفسه، وكلمة شكر صادقة قد تذيب جليد الخصام.
على النقيض تماماً، تقف الكلمة الجارحة كسلاح فتاك. فكم من علاقة انتهت بسبب كلمة قيلت في لحظة غضب، وكم من موهبة وُئدت في مهدها بسبب نقد لاذع، وكم من نفسٍ تألمت لسنوات جراء سخرية عابرة. إن الأثر السلبي للكلمات قد يترك ندوباً غائرة في النفس، يصعب على الزمن محوها.
لماذا ينجح أحدهم ويفشل الآخر؟
وهنا نصل إلى جوهر تساؤلنا: لماذا قد يتحدث شخصان عن نفس الفكرة، فينجح أحدهما في إقناع جمهوره والتأثير فيه، بينما يفشل الآخر فشلاً ذريعاً؟ الإجابة لا تكمن في “الكلمات” بحد ذاتها، بل في “كيفية” قولها، وفي “من” يقولها. لقد حلل الفلاسفة وخبراء التواصل هذه الظاهرة منذ القدم، ويمكننا تلخيص الفوارق الرئيسية في النقاط التالية:
ثلاثية التأثير: العقل، العاطفة، والمصداقية (Logos, Pathos, Ethos)
المنطق (Logos) : يعتمد هذا الجانب على قوة الحجة ووضوحها. المتحدث الناجح يقدم رسالته بشكل منطقي، مدعوماً بالأدلة والبراهين، وسهل الفهم والاستيعاب. رسالته تكون منظمة ومترابطة، خالية من الحشو والتناقضات.
العاطفة (Pathos): الإنسان كائن عاطفي بطبعه. المتحدث الذي ينجح في ملامسة مشاعر جمهوره، وإثارة تعاطفهم وشغفهم، يمتلك فرصة أكبر لإيصال رسالته. هذا لا يعني التلاعب بالعواطف، بل صدق الشعور والتعبير عنه بحرارة وحماس. عندما يشعر الجمهور بأن المتحدث يشاركهم نفس المشاعر، يتفاعلون معه بشكل أعمق.
المصداقية (Ethos): هذا هو العامل الحاسم. هل نثق في هذا الشخص؟ مصداقية المتحدث تُبنى من خلال سمعته، خبرته، وأخلاقه. عندما يتحدث شخص معروف بنزاهته وعلمه في مجال معين، فإننا نميل إلى تصديق كلامه وتقبله. هذه المصداقية لا تُبنى في لحظة، بل هي نتاج مواقف وتجارب.

ما وراء الكلمات: لغة الجسد ونبرة الصوت
تشير الأبحاث إلى أن نسبة كبيرة من تواصلنا هي في الواقع “غير لفظية”. فنبرة الصوت، وتعابير الوجه، وحركة اليدين، ووقفة الجسد، كلها ترسل رسائل قوية قد تدعم الكلمات المنطوقة أو تناقضها تماماً. الشخص الذي يتحدث بحماس وشغف، وتنعكس هذه المشاعر على لغة جسده، يكون أكثر إقناعاً من شخص يتحدث بفتور وملل، حتى لو استخدم نفس المفردات.
فهم الجمهور: مفتاح القلوب
المتحدث البارع هو الذي يدرس جمهوره قبل أن يخاطبه. فهو يسعى لفهم احتياجاتهم، اهتماماتهم، ومستوى معرفتهم بالموضوع. وبناءً على هذا الفهم، يختار الكلمات والأسلوب والنهج الأنسب لهم. إن التحدث “إلى” الجمهور يختلف تماماً عن التحدث “مع” الجمهور. الأول علاقة أحادية الاتجاه، والثاني حوار تفاعلي يخلق جسراً من التواصل الحقيقي. فهذا ما وراء الكلمات
الشغف والحماس: عدوى إيجابية
عندما يتحدث الإنسان عن أمر يؤمن به بشدة ويشعر تجاهه بشغف حقيقي، فإن هذا الشغف ينتقل بشكل لا إرادي إلى المستمعين. الحماس معدٍ، وهو يضفي على الكلمات قوة وحياة ويجعلها أكثر تأثيراً. الشخص الذي يفتقر إلى الحماس، تبدو كلماته جوفاء وباهتة، حتى لو كانت صحيحة من الناحية المنطقية
في الختام، إن “الكلمة” أمانة ومسؤولية. ولكي نكون مؤثرين بحق، علينا أن ندرك أن الأمر لا يتعلق فقط باختيار المفردات الصحيحة، بل بتقديمها في قالب من الصدق، والعاطفة، والمنطق، مدعومة بلغة جسد واثقة، وموجهة إلى قلوب وعقول تفهمها وتتفاعل معها. لنجعل من كلماتنا جسوراً من التفاهم والمحبة، لا أسواراً من الفرقة والجفاء.