شبح الذكاء الاصطناعي.. (قوات صديقة أم قوات معادية...!)
1 يونيو 2025
في خضم الضجيج المتواصل لحواراتنا اليومية، كثيرًا ما يفرض علينا صعود التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة الذكاء الاصطناعي، الدخول في جدل ثنائي سطحي حول ما إذا كان “الذكاء الاصطناعي جيدًا” أم “سيئًا”. وغالبًا ما يستحضر هذا الجدل شبح الإحلال – سردية تتنازل فيها البراعة البشرية تدريجيًا عن مكانتها لصالح الكفاءة الخوارزمية. نسمع التكهنات اليومية، ومخاوف التجاوز والتقادم، ومن السهل أن نشعر بأننا عالقون في تيار يسحبنا نحو مستقبل مؤتمت، وربما مجرد من الطابع الشخصي. ولكي نصل إلى فهم أعمق لدور التكنولوجيا، يتعين علينا أولاً أن نعترف بالأعباء المتأصلة في العديد من جوانب العمل الحديث.
ولكن، ماذا لو لم يكن هذا المد التكنولوجي يتمحور حول الإزاحة فحسب؟ ماذا لو كانت هناك، في ثنايا الخوادم الطنانة والأكواد المعقدة، فرصة غير مسبوقة – ليس لتقليص دورنا، بل لتعميقه بشكل جذري عبر التخفيف من تلك الأعباء ذاتها؟ تخيل مستقبلًا تعمل فيه التكنولوجيا ليس كبديل، بل كشريك صامت، يحررنا من المهام الرتيبة والمتكررة، ومن عبء معالجة البيانات الضخمة الذي غالبًا ما يحجب البراعة الحقيقية لمهننا.
ليس هذا دفاعًا عن الذكاء الاصطناعي، ولا تجاهلًا للمخاوف الحقيقية المحيطة بتطوره. بل هو استكشاف لمنظور مختلف: رؤية تحرر فيها التكنولوجيا المواهب البشرية للتركيز على ما نجيده نحن كبشر. إنها دعوة لاستعادة مساحة التفكير النقدي، وتعزيز التواصل الحقيقي، وتنمية الحلول الإبداعية، وممارسة التقدير الدقيق للأمور – وهي العناصر ذاتها التي تضفي على عملنا معنى وتأثيرًا.
ويتجلى هذا التحول بشكل خاص، بل إنه يحدث بالفعل، في المجالات التي تعتمد على التواصل والتفاهم الإنساني، مثل قطاع الاتصالات. إننا نقف عند منعطف مذهل حيث يمكن لـ “التكنولوجيا الفائقة” أن تمكّن من تحقيق “تواصل إنساني عميق” بطرق لم تكن متخيلة سابقًا، مما يسمح لنا بتقديم مساهمات أكثر بصيرة واستراتيجية، وفي نهاية المطاف، أكثر إنسانية بشكل جذري. دعونا نتعمق في كيفية إعادة تشكيل هذه الشراكة التحويلية ليس فقط لما نفعله، بل لجوهر عملنا ذاته.
في جوهره، يعمل الذكاء الاصطناعي كأداة فعالة لفهم واستيعاب التدفق الهائل للمعلومات الرقمية. فهو لا يحل محل المحلل البشري أو الاستراتيجي؛ بل يزوده بما يشبه “المنظار الشمولي” لرؤية الصورة الأكبر والتفاصيل الدقيقة ضمن البيانات الضخمة. وهذا يسمح للمهنيين بتوجيه مواردهم المعرفية نحو التفكير عالي المستوى: تفسير الترابطات المعقدة، وصياغة الفرضيات، وممارسة الحكم الأخلاقي، وتطوير حلول إبداعية بناءً على مشهد معلوماتي أغنى بكثير وأكثر دقة في الإدراك. يصبح عملهم معنيًا أكثر بالتفسير الاستراتيجي والإجراءات الثاقبة، بدلاً من جمع البيانات المضني.
وفي قطاع الاتصالات على وجه التحديد، هناك أمثلة عديدة تخفف فيها التكنولوجيا من المهام الروتينية أو توسع نطاق الوصول، مما يسمح للمهنيين بالتركيز على الجوانب الأكثر دقة واستراتيجية وتعاطفًا في أدوارهم. وهذا يجعل عملهم أعمق من خلال تركيز جهودهم حيث تكون للذكاء البشري والتواصل العاطفي قيمة لا يمكن تعويضها.
تأمل هذه الأمثلة من قطاع الاتصالات حيث تعزز التكنولوجيا العمل بدلاً من أن تحل محله، مما يتيح إنجاز مهام أكثر عمقًا وجوهرية:
- مساعدو الكتابة والتحرير المدعومون بالذكاء الاصطناعي (مثل Grammarly، ProWritingAid، وبعض استخدامات ChatGPT):
- يخفف من: المهمة المملة للتدقيق اللغوي بحثًا عن الأخطاء النحوية والإملائية وعلامات الترقيم الأساسية، وتقديم بعض الاقتراحات الأسلوبية، أو حتى العصف الذهني الأولي.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: يمكن لمتخصصي الاتصال (الكتاب، المحررين، أخصائيي العلاقات العامة، المسوقين) قضاء وقت أقل في الأخطاء الشكلية والمزيد من الوقت في الرسالة الأساسية، والبنية السردية، والنبرة، والعناصر الإقناعية، وفهم الجمهور، والتفكير الإبداعي. يتولى الذكاء الاصطناعي مهام “الصيانة الأساسية”، بينما يصوغ الإنسان الفن والاستراتيجية.
- أنظمة إدارة علاقات العملاء (CRM) المزودة برؤى الذكاء الاصطناعي (مثل Salesforce Einstein، HubSpot)
- يخفف من: الإدخال اليدوي للبيانات، وتتبع تفاعلات العملاء عبر قنوات متعددة، وغربلة كميات هائلة من البيانات لتحديد الاتجاهات أو توقع الاحتياجات.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: يمكن لوكلاء خدمة العملاء وفرق المبيعات ومديري الحسابات الوصول إلى رؤية موحدة لرحلة العميل ورؤى مدفوعة بالذكاء الاصطناعي (مثل أفضل وقت للاتصال، أو مخاطر توقف العميل عن التعامل، أو فرص البيع الإضافي). وهذا يحررهم للتركيز على بناء علاقات حقيقية، وفهم احتياجات العملاء المعقدة، وتقديم حلول مخصصة، وإدارة المواقف الحساسة بتعاطف – وهي جوانب يتفوق فيها الذكاء العاطفي البشري.
- أدوات إدارة وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي (مثل Hootsuite، Sprout Social، Brandwatch)
- يخفف من: العمل اليدوي لجدولة المنشورات عبر المنصات، وتتبع الإشارات، وجمع بيانات التفاعل الأولية. يمكن لمكونات الذكاء الاصطناعي المساعدة في تحديد المؤثرين، وتحليل المشاعر على نطاق واسع، أو اكتشاف الأزمات الناشئة.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: يمكن لمديري وسائل التواصل الاجتماعي والمسوقين الرقميين تحويل تركيزهم من التنفيذ اللوجستي إلى التخطيط الاستراتيجي، وصياغة محتوى مقنع، والمشاركة في محادثات هادفة مع جمهورهم، وتفسير الفروق الدقيقة والمعقدة في المشاعر، واتخاذ قرارات مستنيرة بالبيانات بشأن توجه الحملة. يصبحون استراتيجيين وبناة مجتمعات، وليسوا مجرد مجدولين للمحتوى.
- برامج الترجمة والتعريب المتقدمة (مع إشراف بشري):
- يخفف من: العبء الأولي لترجمة كميات كبيرة من المحتوى. أصبحت الترجمة الآلية العصبية متطورة جدًا للمسودات الأولية.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: يمكن للمترجمين البشريين وخبراء التعريب التركيز بعد ذلك على الفروق الدقيقة الحاسمة: الملاءمة الثقافية، والتعبيرات الاصطلاحية، واتساق صوت العلامة التجارية عبر اللغات، وضمان أن المحتوى المترجم يتردد صداه عاطفيًا وسياقيًا مع الجمهور المستهدف. وهذا أمر بالغ الأهمية لحملات الاتصال العالمية حيث يمكن للأخطاء الطفيفة أن يكون لها تأثير كبير. توفر التكنولوجيا الأساس؛ ويقدم الإنسان الصقل والذكاء الثقافي.
- منصات الاتصال والتعاون الداخلية (مثل Slack، Microsoft Teams، Asana)
- يخفف من: الحاجة إلى سلاسل بريد إلكتروني لا نهاية لها، وكوابيس التحكم في الإصدارات، والصعوبات في تتبع تقدم المشروع أو العثور على المعلومات.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: تبسّط هذه الأدوات سير العمل ومشاركة المعلومات، مما يسمح لفرق الاتصال بالتعاون بفعالية أكبر، وقضاء وقت أقل في النفقات الإدارية، والمزيد من الوقت في التوافق الاستراتيجي، والعصف الذهني الإبداعي، وتعزيز ثقافة داخلية قوية. يتحول التركيز من استرجاع المعلومات إلى استخدام المعلومات وحل المشكلات بشكل تعاوني.
- أدوات النسخ وتلخيص الاجتماعات المدعومة بالذكاء الاصطناعي (مثل Otter.ai، Fireflies.ai)
- يخفف من: المهمة الشاقة لتدوين ملاحظات الاجتماعات التفصيلية أو نسخ المقابلات.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: يمكن للمتصلين (الصحفيين، الباحثين، مديري المشاريع، متخصصي العلاقات العامة) الحضور والمشاركة بشكل كامل أثناء المحادثات، مع العلم أنه يتم تسجيل كل شيء. يمكنهم بعد ذلك استخدام النصوص والملخصات التي ينشئها الذكاء الاصطناعي لاستخلاص الأفكار الرئيسية بسرعة، وتحديد الإجراءات، وتجميع المعلومات للتقارير أو إنشاء المحتوى، مع التركيز على التحليل والتفسير بدلاً من التوثيق.
- تحليل البيانات الضخمة المدعوم بالذكاء الاصطناعي لاستخبارات السوق ورصد الرأي العام (مثل المنصات التي تستخدم معالجة اللغات الطبيعية، والتعلم الآلي لتحليل الاتجاهات، وتحليل المشاعر عبر مجموعات بيانات واسعة)
- يخفف من: المهمة الهائلة، والتي غالبًا ما تكون مستحيلة، والمتمثلة في جمع وقراءة وتوليف كميات هائلة من البيانات غير المهيكلة يدويًا من مصادر متنوعة مثل المقالات الإخبارية، ومحادثات وسائل التواصل الاجتماعي، وتقارير الصناعة، والأوراق الأكاديمية، والمنتديات عبر الإنترنت، ومراجعات العملاء. يمكن للذكاء الاصطناعي معالجة هذه البيانات على نطاق واسع لتحديد الأنماط والموضوعات وتحولات المشاعر والسرديات الناشئة.
- يجعل العمل أكثر عمقًا: لم يعد استراتيجيو الاتصالات وباحثو السوق ومتخصصو العلاقات العامة ومديرو العلامات التجارية مقيدين بنطاق البيانات التي يمكنهم استهلاكها شخصيًا. فمع تولي الذكاء الاصطناعي مهام “القراءة” و”الجمع” الأولية على المستوى الكلي، يمكن للبشر:
- اكتساب رؤى أعمق وأوسع نطاقًا: فهم الخطاب العام، ومشاعر المستهلكين، والمشهد التنافسي بعمق واتساع غير مسبوقين، والانتقال من الأدلة القولية إلى الفهم القائم على البيانات.
- الكشف المبكر عن الاتجاهات والأزمات: تحديد الإشارات الضعيفة، والاتجاهات الناشئة، وحملات التضليل المحتملة، أو الأزمات التي تلوح في الأفق في وقت أبكر بكثير مما تسمح به الطرق اليدوية.
- التبصر الاستراتيجي: تركيز خبراتهم على تفسير الأسباب الكامنة وراء أنماط البيانات التي كشف عنها الذكاء الاصطناعي، وفهم الآثار الدقيقة، وتطوير استراتيجيات اتصال متطورة واستباقية.
- صقل الرسائل والاستهداف: صياغة رسائل أكثر صدى واستهدافًا بدقة من خلال فهم التحولات الدقيقة في الرأي العام أو احتياجات شرائح معينة محددة من البيانات الضخمة.
- قياس التأثير بشكل أكثر شمولاً: تقييم التأثير الحقيقي لحملات الاتصال من خلال تحليل كيفية تحويلها للخطاب العام أو المشاعر عبر مجموعة واسعة من المصادر عبر الإنترنت.
سواء كان الأمر يتعلق بصقل أسلوب الكتابة باستخدام أدوات التحرير المدعومة بالذكاء الاصطناعي، أو إدارة علاقات العملاء عبر أنظمة ذكية، أو استخلاص الرؤى من الخطاب العام الواسع، أو تبسيط تعاون الفرق، فإن المبدأ الشامل الذي تسلط عليه هذه الأمثلة الضوء يظل ثابتًا. لا تهدف هذه التطورات التكنولوجية إلى تقليل أهمية المهارات البشرية الأساسية كالتخطيط الاستراتيجي أو الإبداع أو التعاطف في مجال الاتصال. بل إنها تعمل على الارتقاء بها من خلال توفير أساس أكثر قوة – يتمثل في رؤى أثرى، وفهم أوضح، وكفاءة تشغيلية أكبر – وهو ما يمكّن بدوره خبراء الاتصال من توظيف مواهبهم البشرية المتميزة لتحقيق نتائج أعمق وأكثر فعالية.
في جميع هذه الحالات، تعمل التكنولوجيا كمساعد قوي. فهي تتولى المهام المتكررة، كثيفة البيانات، واللوجستية، وبالتالي تحرر العاملين في مجال الاتصال لتطبيق مهاراتهم البشرية الفريدة: التفكير النقدي، والإبداع، والتعاطف، والبصيرة الاستراتيجية، والحكم الأخلاقي، والقدرة على بناء علاقات حقيقية. هذا لا يجعل العمل أكثر كفاءة فحسب؛ بل يجعله أكثر معنى ويسمح للمهنيين بالعمل على مستوى أعلى وأكثر عمقًا. إن تبني هذه الشراكة يتطلب تحولًا واعيًا في المنظور، والنظر إلى التكنولوجيا ليس كمنافس، بل كعامل محفز لاستعادة جوهر عملنا.