25 مايو 2025

إن العبارة الخالدة “السعادة قرار” تحمل في طياتها حقيقة عميقة: السعادة ليست مجرد مصادفة تطرق بابنا، بل هي نتيجة مباشرة للكيفية التي نختار بها أن ننظر إلى حياتنا ونتفاعل مع أحداثها. هذا القرار لا يعني تجاهل صعوبات الحياة، بل يعني تسليح أنفسنا بالأدوات الذهنية والعاطفية التي تمكننا من إدارة تصوراتنا وردود أفعالنا بوعي. تحدثنا في المقال السابق عن ضرورة التحكم في الغضب لإدارة الأمور بشكل قيادي (اقرأه هنا https://shorturl.at/kofds ) وبالعودة إلى منبع الغضب، ندرك أنه غالبًا ما يكون ناتجًا من شعور بعدم الرضا عن الحالة الراهنة، أو في تعبير يمثل حالة أشد من ذلك وهي الاستياء. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل شعور الاستياء هذا هو حكم حقيقي ونهائي على الحالة؟ أم أنه استياء قد يكون ناجمًا عن قراءة قاصرة أو تركيز على جزء محدد من دون النظر إلى كافة معالم المشهد وكافة المعطيات؟ 

عندما تتعاطى مع موقف ما، فإن هناك الكثير من المعطيات التي تؤثر على وجهة نظرك، وبالتالي على رؤيتك، ومتصلاً بذلك حالتك النفسية أو اتجاهك نحو التعاطي مع الأمر بطريقة سلبية أو بعدم رضا أو استياء. لقد أدرك الإمام الشافعي اختلاف الرؤى بناءً على المعطيات الكامنة في النفس فقال: “عين الرضا عن كل عيب كليلة … وعين السخط تبدي لك المساوئ”.

وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي، فقوله هذا ليس مجرد حكمة بليغة، بل هو وصف دقيق لكيفية عمل النفس البشرية في تقييمها للأمور وتفاعلها معها. إن “عين السخط” التي تبدي المساوئ قد لا تكون مخطئة في رؤية العيب، لكنها، كما أشرنا، قد تكون “قاصرة”، أي أنها تركز على هذا العيب وتضخمه حتى يطغى على ما عداه، أو أنها تبني حكمًا كليًا ودائمًا بناءً على انطباع جزئي أو لحظي. إن تنمية “عين الرضا” بالمقابل، لا تعني السذاجة أو تجاهل المشكلات، بل هي قرار واعٍ بالبحث عن الإيجابيات وتوسيع زاوية النظر، والتدرب على الامتنان والتقدير لما هو قائم بالفعل.

وهنا، تقدم لنا الأبحاث النفسية الحديثة، وبخاصة تلك التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي واستخدمت “منهجية أخذ العينات التجريبية” (Experience Sampling Method – ESM)، رؤى قيمة وعملية. سعت هذه الدراسات، التي استخدمت أجهزة النداء أو تطبيقات الهواتف الذكية حديثًا لتتبع مشاعر الناس وأنشطتهم في لحظتها الحقيقية، إلى تجاوز الاعتماد على الذاكرة والانطباعات العامة التي غالبًا ما تكون عرضة للتحيز أو التبسيط المخل. على سبيل المثال، قد يُطلب من المشاركين في دراسة ESM تسجيل مستوى رضاهم ونشاطهم الحالي عدة مرات في اليوم عند تلقيهم إشعارًا، فتكشف النتائج أن تقلبات المزاج مرتبطة بشكل كبير بالأنشطة السياقية (مثل الشعور برضا أكبر أثناء ممارسة هواية أو التفاعل مع الأصدقاء مقارنة بأوقات أخرى) أكثر مما قد يعتقده الشخص بناءً على مزاجه العام. لقد كشفت هذه الأبحاث أن مشاعرنا، بما في ذلك الرضا أو الاستياء، ليست ثابتة بل هي ديناميكية وتتأثر بشدة بالسياق اللحظي، بالنشاط الذي نقوم به، وبالأشخاص الذين نتفاعل معهم، وحتى بالوقت من اليوم.

فكيف نستفيد من هذا في قراءة شعورنا بالاستياء بشكل أفضل، وكيف نترجم ذلك إلى “قرار” فعلي بالسعي نحو السعادة؟ إن الرسالة العملية هنا تكمن في تطوير قدرتنا على “أخذ عينات تجريبية” من مشاعرنا ومواقفنا بشكل واعٍ. هذا هو جوهر اتخاذ القرار: أن نختار تفعيل هذه الأدوات الواعية بدلاً من الاستسلام للتيار السلبي. عندما تشعر بالاستياء تجاه موقف معين أو شخص ما، جرب الخطوات التالية:

  1. توقف وتأمل في اللحظة: بدلاً من ترك شعور الاستياء العام يسيطر عليك، اسأل نفسك: “ما الذي أشعر به الآن تحديدًا؟ وما هو الحدث أو الفكرة المباشرة التي أثارت هذا الشعور في هذه اللحظة بالذات؟”. قد تكتشف أن مصدر الاستياء اللحظي هو تفصيل صغير يمكن التعامل معه، أو سوء فهم بسيط، وليس بالضرورة تأكيدًا على سلبية الموقف برمته.
  2. وسّع دائرة الملاحظة: كما أشارت المقدمة إلى التركيز على جزء محدد، حاول بوعي أن توسع نظرتك. هل هناك جوانب أخرى في الموقف لم تلتفت إليها؟ هل هناك معطيات إيجابية أو حتى محايدة قد تكون “عين السخط” أغفلتها؟ إن البحث المتعمد عن هذه الجوانب ليس تجاهلاً للمشكلة، بل هو سعي نحو قراءة أكثر تكاملاً.
  3. لاحظ التغيرات والتقلبات: إذا كان الموقف المسبب للاستياء متكررًا، حاول أن تلاحظ الأوقات التي يكون فيها شعورك أقل حدة أو حتى مختلفًا تجاه نفس الموقف أو الشخص. ما الذي كان مختلفًا في تلك اللحظات؟ هل كان سياقك مختلفًا؟ هل كانت توقعاتك مختلفة؟ إن فهم هذه التقلبات يساعد على كسر التعميمات السلبية.
  4. ميّز بين الشعور اللحظي والحكم الكلي: إن الشعور بالضيق أو عدم الرضا في لحظة معينة هو تجربة إنسانية طبيعية. لكن الخطر يكمن في تحويل هذا الشعور اللحظي إلى حكم نهائي ودائم على الموقف أو الشخص (“هذا الأمر سيء دائمًا”، “هذا الشخص لا يطاق”). تذكر أن “عين السخط” قد ترى المساوئ في تلك اللحظة، ولكن هل هذه المساوئ هي كل الحقيقة وكل الوقت؟

قد يبدو تطبيق هذه الخطوات، خاصة في البداية أو عندما تكون المشاعر جياشة، تحديًا بحد ذاته. قد نقاوم تغيير منظورنا أو نجد صعوبة في التأمل وسط العاصفة. لكن المفتاح يكمن في الممارسة المستمرة والقرار الواعي بالمحاولة.

إن هذه الخطوات لا تهدف إلى إنكار مشاعر الاستياء أو تزييف الواقع، بل إلى فهمها بشكل أعمق وأكثر دقة. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن ليس كل استياء هو بالضرورة نتاج قراءة قاصرة يجب “تصحيحها”. أحيانًا، يكون الاستياء إشارة صحية تدفعنا نحو تغيير إيجابي ضروري، كالسعي لتغيير وضع مؤذٍ أو المطالبة بحق. لكن الاستياء الذي نقصده هنا هو ذلك الذي يعكر صفو حياتنا بشكل متكرر دون أن يؤدي إلى حل بناء، بل إلى مزيد من السلبية. فعندما نفهم منبع شعورنا الحقيقي وتأثير المعطيات اللحظية على رؤيتنا، نصبح أقدر على التعامل مع المواقف بحكمة بدلاً من الاندفاع وراء غضب قد يكون مبنيًا على قراءة منقوصة. إنها دعوة لتنمية “عين بصيرة” ترى العيوب إن وجدت، لكنها ترى معها الصورة الأكبر، وتدرك أن المشاعر تتغير، وأن القراءة المتأنية هي مفتاح التعامل الفعال والقلب الراضي.

فهم أن الرضا ليس سعادة دائمة بل توازن وتقدير

  • قبول التقلبات: الحياة بطبيعتها تتضمن تحديات ولحظات صعبة. السعي نحو تحقيق حالة من الرضا، ولنقل “7 من 10 أو أكثر” على مقياس شخصي للرفاه، لا يعني توقع حالة من النشوة الدائمة أو سعادة مطلقة لا تشوبها شائبة. هذا المقياس الشخصي هو إشارة إلى مستوى جيد من الرضا العام يمكننا العمل للوصول إليه والحفاظ عليه. بل يعني بناء مرونة نفسية، وتنمية القدرة على العودة إلى حالة من التوازن والرضا الأساسي بعد الصعوبات، وتقدير اللحظات الجيدة عندما تأتي.
  • التركيز على العملية لا النتيجة فقط: غالبًا ما يكون الانخراط الهادف في سعينا نحو أهدافنا، سواء كانت شخصية أو مهنية، مصدرًا للرضا بحد ذاته، حتى قبل تحقيق الهدف النهائي.

إن “سر السعادة” ليس اكتشافًا خارجيًا غامضًا بقدر ما هو رحلة داخلية من الوعي والفهم، وهو قرار يتجدد بالعمل المتعمد. هذا القرار هو في اختيارنا تفعيل الأدوات التي تمكننا من قراءة مشاعرنا بصدق، وفهم ما يثري تجربتنا اليومية، والسعي نحو الانخراط الهادف. من خلال هذه الرحلة وهذا القرار، يمكننا بالفعل أن نرفع من جودة معيشتنا ونقترب أكثر من حالة الرضا العميق الذي يجعل الحياة أكثر معنى وجمالاً، مستهدفين بذلك أفضل نسخة ممكنة من الرفاه الشخصي. جرب تطبيق هذه المبادئ، ولاحظ كيف يمكنك أن تصنع قرارك اليومي نحو حياة أكثر سعادة ورضا.